الفصل سادس قسم الثاني
استيقظ سامر على ضوء ساطع يلسع جفنيه، وتنهيدة من صدره كانت كأنها تنتمي إلى جسد آخر. فتح عينيه فوجد نورا لا تزال نائمة، رأسها ما زال على كتفه، وشعرها قد تمرد على الجاذبية.
رفع هاتفه بسرعة.
"اللعنة..." همس، ثم همس مجددًا وهو يبتعد عنها بلطف، "الساعة الواحدة وخمس وأربعون دقيقة."
تحرك بهدوء كي لا يوقظها، لكنه لم يفلح. فتحت عينيها ببطء وهي تحاول استيعاب المشهد.
"كم الساعة؟" همست بنعاس.
"تأخر الوقت... كثيرًا. لا بد أن أذهب ."
ثم ابتسم ابتسامة قصيرة وهو يرتب قميصه قائلاً:
"لكن على الأقل لديّ عذر أكاديمي هذه المرة."
وأشار إلى الكتب المفتوحة والملاحظات المتناثرة. نظرت هي حولها وضحكت بهدوء.
"لم أتصوّر أن تغلبنا النوم وسط هذه الفوضى."
أخذ سترته عن الكرسي، ثم توجه نحو الباب بخطوات مسرعة. وعند مغادرته، اكتفى بإيماءة قصيرة، ثم غادر.
بقيت نورا تنظر إلى الباب للحظة صامتة، كأنها تُمعن في معنى ما حدث... دون أن تسميه.
دخل سامر إلى المقهى بخطى سريعة، وقد بدا عليه أثر السهر، لكنّه حافظ على هدوئه المعتاد. لمح المدير خلف البار، يجهّز الطلبات بنفسه على غير عادته، وعباراته سبقت عينيه:
"أرجو أنك تملك سببًا جيّدًا لهذا التأخير."
لم يُجِب سامر، بل توجّه مباشرة نحو محطة التحضير، أخرج أدواته، وبدأ العمل دون نقاش. الوقت لم يكن مناسبًا للكلام.
لحسن الحظ، لم تدم فترة الزحمة طويلًا؛ دقائق قليلة من التركيز، وتدارك سامر ما فاته. عادت الأمور تدريجيًا إلى وتيرتها المعتادة، وبدأ الزبائن يقلّون.
حين خفّت الحركة، خرج المدير من خلف البار، مسح يديه بمنشفة بيضاء، ثم نادى بصوت لا يحمل توترًا، ولا وُدًّا مبالغًا:
"سامر، تعال."
رفع سامر عينيه نحوه، فرأى أنه يشير إلى المكتب الداخلي.
دون كلمة، خلع مريوله، وغسل يديه بسرعة، ثم تبعه.
في الداخل، جلس المدير خلف المكتب، وأشار له بالجلوس أمامه.
دخل سامر إلى المكتب بعد أن خفّت الزحمة، وكان المدير يجلس خلف مكتبه يتصفح بعض الأوراق. رفع نظره نحوه، وأشار له بالجلوس دون أن يظهر انفعالًا واضحًا، لكن نبرته كانت جادة:
– لما تأخرت اليوم يا سامر؟
قال سامر بنبرة صادقة، فيها شيء من التعب:
– أنا أعتذر، لقد سهرت البارحة ولم أستيقظ في موعدي… كنت أساعد صديقًا في مشروع دراسي، وغفونا أثناء الدراسة.
رفع المدير حاجبيه قليلاً، ثم قال بنبرة لم تخلُ من الحدة:
– صديق؟ هل تقصد تلك الزبونة التي تبقى هنا بالساعات لتدرس؟
تردد سامر للحظة، ثم أجاب بثبات:
– نعم.
تنهد المدير ببطء، وهزّ رأسه:
– لقد حذّرتك من أن هذا الأمر قد يشتّتك يا سامر.
ماذا حدث لك؟ كنت من أكثر العاملين نشاطًا، وكنت تهتم بالمكان وكأنه ملكك.
أجاب سامر، محاولًا الحفاظ على احترامه وهدوئه:
– شكراً لقولك ذلك سيدي، لكن هذه عثرة بسيطة، وكل شيء بخير الآن.
تأمل المدير ملامحه لثوانٍ، ثم مال بجسده للأمام قليلاً:
– عثرة بسيطة؟
سامر، أنا لا أحمّلك فوق طاقتك، لكنك تعلم تمامًا كم يعتمد هذا المكان عليك.
كل واحد منّا يمر بلحظات ضعف أو انشغال، لكن المشكلة ليست في العثرة… بل في ما تجرّه خلفها إن لم ننتبه.
(توقف قليلًا، ثم أكمل)
– إن كنت متأكدًا أن كل شيء تحت السيطرة، فأثبت لي ذلك.
ولا تجعلني أضطر للتدخل بطريقة لا نحبها، لا أنا ولا أنت.
ثم نهض من كرسيه ببطء، وتوجه نحو الباب، وقبل أن يخرج التفت إليه قائلاً:
– خذ دقيقة، ثم عد إلى العمل.
وسامر… حاول ألا تدع قلبك يسرق تركيزك.
(يتوقف عند الباب لحظة، ثم يضيف)
– وبالمناسبة… سأخصم اليوم من راتبك هذا الشهر. أظنه إنذارًا كافيًا .
ثم خرج، تاركًا سامر وحده للحظة صمت قصيرة، قبل أن ينهض ويعيد تركيزه نحو العمل.
عاد سامر إلى عمله، يضع كوب القهوة جانبًا، يحاول أن يستعيد تركيزه وسط زحمة الطلبات المتناثرة أمامه. لكن عقله لم يكن هادئًا؛ كان كمن يحمل وزنًا لا يراه الآخرون.
تجول في ذهنه ما دار مع المدير، كلماتٌ لم تكن مجرد لوم عابر، بل تذكيرٌ صارم بمسؤولياته، وبما قد يخسره إن لم ينتبه. كان يعلم أن تركيبة حياته بدأت تتغير، علاقته مع ليلى التي أصبحت تأخذ منه أكثر مما يمكن تحمله في هذا الوقت الحرج.
تساءل في صمت:
هل يمكنني الاستمرار على هذا النحو؟ هل أستطيع الجمع بين الطموحات الشخصية والواجبات العملية دون أن أتخلى عن أحدهما؟
رأى في عينيه انعكاسًا لصورة متعبة، لشاب يكاد يغرق في دوامة ضغط متزايد، بين العمل وبين قلبه الذي بات يشهد تحولات لم يكن مستعدًا لها.
فكر بحذر في القرار الذي عليه اتخاذه: هل يواصل السير على هذا المسار، محاولًا الموازنة بين كل شيء، أم يتخذ خطوة حاسمة…
أغمض عينيه قليلاً، ثم فتحها ببطء، وكأنما أوقف عقله عن الهروب.
الوقت لم يعد يسمح بالمزيد من التردد
بينما كان يواصل عمله بآلية شبه تلقائية، بدأ صوته الداخلي يعلو، صوتان متضادان يتنازعان داخله... أحدهما يتمسك بالاستقرار، والآخر يرفض الركود.
داخل عقل سامر، احتدم النقاش:
.
أخشى أن أخسر استقراري الحالي والهدوء النسبي الذي وجدته في عملي وحياتي.
حقًا؟ لم أحلم أن أعمل في مقهى لباقي عمري، ولست أملك حقًا مستوى الحياة الذي طمحت إليه يومًا.
أجل، لكنني هنا منذ ست سنوات ولم أتحرك أبدًا. هل هذا جيد أم سيئ أم كلاهما؟
هل أترك عملي؟
لا، لا تتركه. الاستقرار مهم، وهذا العمل يمنحك بعض الأمان والروتين.
لدي شهادة جامعية بالفعل.
وهذا جيد، لكنه لا يعني أن تترك كل شيء الآن دون خطة واضحة.
لدي بعض المال المدخر، ويمكنني البحث عن شيء يناسب شهادتي، وربما أجد فرصة أفضل. بالإضافة إلى ذلك، عملي هذا دفن لنفسي، لا أتذكر آخر مرة خرجت فيها في منتصف النهار لأي شيء.
أعرف أن الأمر خطير، لكن هل تظن أن ليلى ستتابع مع عامل قهوة مثير للشفقة؟
وهل هذا سبب كافٍ لتخاطر بكل شيء؟
إن كانت ستبقى فقط إن كنت "شيئًا أكبر"، فربما لا تستحق هذا الصراع أصلًا.
ثم من قال إنك مثير للشفقة؟
هل كونك في مكان بسيط، تعيش بشرف وهدوء، يجعلك دون قيمة؟
الاحترام لا يُشترى بالمناصب، بل يُكتسب بالثبات، بالعقل، بالنية.
وإن كانت ترى فيك ما يجعلك مختلفًا، فلن تنظر إلى فنجان القهوة بل إلى من يقدّمه.
شرف؟ هل تسمي محاضرة من مدير ونظرات الاستحقار من زبائن لعامل بسيط شرفًا؟ أو لحظات إعطائهم بقشيش دولار ويتوقعون فرحي بالمشرفة أو تصنعي للابتسامة أثناء أخذ هذا البقشيش؟ هل هذا الأمر مشرف؟
تعرف ماذا؟ أنت سبب، لو كنت قويًا كفاية لما تعرفت على ليلى.
ربما، وربما تكون من يتسبب في إخلال وضعي للأسوأ.
اصمت.
تعرف أن المشكلة موجودة، التجنب لن يحل شيئًا
قاطعت نقاش يد وضعت
بلمسه خفيفة على كتفه، أيقظته كأنها تحرّك طبقة راكدة من أفكاره.
همست بابتسامة هادئة:
"لم تنم جيدًا، هاه؟"
فتح عينيه ببطء، نظر إليها للحظة، وقال:
"قليل من الساعات."
ردّت بضحكة خفيفة، ثم سألته:
"هل أخذت استراحتك؟"
هز رأسه نفيًا:
"لا."
وقفت وهي تمطّ رقبتها قليلًا وقالت:
"هيا، جيد... جهّز لنا قهوة، ولنجلس قبل أن تقع على أحد الزبائن."
نهض ببطء، شعر كأنه يتحرك من غيمة إلى واقع.
بين صوتها، وضوء النهار الذي بدأ يتسلل من النوافذ، بدا وكأن العالم لا يزال يحتمل شيئًا من الهدوء... حتى لو للحظة قصيرة
أحضر القهوة بهدوء، ووضع الفنجان أمامها قبل أن يجلس قبالتها.
راحت تنظر إليه لثوانٍ، وكأنها تحاول قراءة التعب خلف ابتسامته الصامتة، ثم قالت بنبرة معتذرة:
"أنا آسفة... جعلتك تسهر كل هذا الوقت. لم أقصد أن أُثقلك."
رفع رأسه قليلًا، نظر في عينيها ورد بابتسامة خفيفة:
"بالعكس... استمتعت بالأمر. الحديث والدراسة معك كانا خفيفين على القلب."
صمتت لحظة، تراقب حركة يده على الفنجان، ثم مالت للأمام قليلًا وقالت بنبرة فيها شيء من الذكاء المرح:
"يبدو أنك تفكر بشئ ما، أليس كذلك؟"
تفاجأ قليلًا، ارتفع حاجباه ثم ضحك بهدوء:
"هل كان واضحًا لهذه الدرجة؟"
ردّت وهي ترفع فنجانها برفق:
"كنت تحدق في اللاشيء وتعبس كأنك تتشاجر مع شخص لا يراك."
ضحك مجددًا، هذه المرة بنبرة خفيفة من الحرج:
"ربما كنت أفعل."
تأملته لثوانٍ أخرى، ثم وضعت فنجانها على الطاولة وسألت بنبرة ناعمة دون ضغط:
"هل تريد أن تتحدث عن الأمر؟"
تنهد بخفة، كمن يزن كلماته، ثم قال وهو ينظر نحو البخار المتصاعد من فنجانه:
"هل... هل حقًا تريدين أن تعرفي؟"
أمالت رأسها قليلًا، بنظرة فيها مزيج من الاهتمام والصدق:
"لو لم أكن أريد، لما سألتك."
ابتسم ابتسامة صغيرة لكنها لم تدم طويلًا، كأنها تفككت من ثقل شيء داخله، ثم تمتم:
"أحيانًا لا أعرف إن كنت بحاجة للكلام... أم للهروب منه."
وضعت كفّها بلطف على الطاولة، قريبة من يده، دون أن تلمسها، وقالت بهدوء:
"أنا هنا، فقط إن أردت."
صمت لثوانٍ، كأنه يعيد ترتيب أفكاره، ثم قال بصوت منخفض لكنه واضح:
"أفكر بترك عملي."
رفعت حاجبيها قليلًا، باندهاش رقيق لم يُخفِ اهتمامها، ثم سألت دون تسرّع:
"منذ متى تراودك هذه الفكرة؟"
نظر نحو فنجانه مجددًا، كأن القهوة تحوي جوابًا لا يزال يبحث عنه، ثم قال:
"ليلة البارحة… وربما قبل ذلك… لكنها نضجت مؤخرًا، بعد كل ما حدث."
أمالت جسدها قليلًا للأمام، ونبرتها ازدادت دفئًا:
"هل الأمر بسبب ما حدث مع المدير؟ أم بسببنا؟"
تأمل ملامحها للحظة، ثم قال بهدوء دون تردد:
"لحظاتنا بالأمس… ذكّرتني أني كنت أملك حلمًا… وأنه لم يكن يومًا أن أبقى هنا فقط."
ترددت لثانية، ثم همست:
"وهل تعرف إلى أين ستذهب إن غادرت؟"
صمت مجددًا، ثم رفع عينيه نحوها وقال بنبرة صادقة:
"ليس بعد، ولكني بدأت أتساءل هل كان البقاء بدافع الخوف من التغيير سببًا في أن أصل إلى هذا الشعور."
ابتسمت ليلى بحدة، ونظرت إليه بفضول:
"فما هو حلمك إذن يا سامر؟"
تردد قليلاً، ثم أجاب بصراحة:
"لست متأكدًا من حلمي، ربما أنا في حيرة، ولكن الحقيقة التي أود أن أعترف بها أنني أتمنى أن أعيش في رفاهية، في مكان صادق، بعيد عن النفاق والتظاهر الذي يحيط بي."
نظرت له ليلى بابتسامة عريضة ونبرة نقد هادئة:
"حسنًا… هذه ليست المدينة المناسبة وهذا ليس هدفًا، يا سامر، بل مجرد أماني، يجب عليك أن تجد أكثر من مجرد أمانٍ إذا أردت أن تحقق شئ."
قال، بعد لحظة صمت شاردة:
"أملك شهادة جامعية في علم النفس."
رفعت حاجبيها بدهشة خفيفة، ثم ابتسمت وهي ترفع كوب القهوة نحو فمها:
"حقًا؟ علم نفس؟ لم أكن لأتوقع ذلك منك."
وضعت الكوب جانبًا، وتابعت بنبرة هادئة، تحمل مزيجًا من الفضول والتشجيع:
"هل فكرت يومًا بفتح مكتب خاص بك؟"
نظر نحوها لبرهة، كمن يحاول قياس وزن الفكرة في ذهنه، ثم تنهد وقال:
"فكرت، نعم... أكثر من مرة. حتى بحثت عن مواقع للإيجار وقرأت عن التصاريح."
هزّ كتفيه بخفة وتابع:
"لكن دائمًا هناك ذلك الصوت الذي يقول: وماذا لو فشلت؟ وماذا لو لم يأتِ أحد؟"
ردّت دون تردد، وعيناها تحدّقان فيه بثبات:
"وهل كان هناك صوت يسألك: وماذا لو نجحت؟"
ابتسم ابتسامة باهتة، كمن يسمع العبارة لأول مرة رغم بداهتها، ثم قال:
"لا... ربما لم أسمعه، أو لم أسمح له بالكلام."
أسندت ظهرها على الكرسي، وحدقت في طاولة القهوة أمامهما:
"أعتقد أن لديك شيء يستحق أن يُجرب، سامر... ليس كل شخص لديه قدرة على قراءة الناس كما تفعل، أو حتى على قراءة نفسه بهذا العمق."
نظر نحوها بصمت، ثم قال بصوت خفيض:
"وأنتِ... أنتِ السبب في أنني بدأت أصدق ذلك من جديد."
قال وهو ينظر إلى فنجانه:
"هذه المدينة تزدحم بأطباء النفس، معظمهم يملكون سنوات من الخبرة، أسماء معروفة، مكاتب أنيقة، وسمعة تجلب الزبائن. لا أظن أنها بحاجة لطبيب جديد... لا خبرة لديه، ولا زبائن مضمونين."
تأملته ليلى لوهلة، ثم قالت بهدوء ونبرة تحمل تفكّرًا لا تهورًا:
"صحيح، المنافسة كبيرة. ولا أحد يضمن أن الطريق سيكون سهل."
أمالت رأسها قليلاً وأردفت:
"لكن في كل مهنة، كان هناك أول يوم، وأول زبون، وأول قلق من الفشل. لا أحد بدأ وفي جيبه ضمان النجاح."
ثم تابعت، ناظرة في عينيه مباشرة:
"فكّر بالأمر هكذا: إن لم تبدأ، لن تعرف. وإن بدأت، حتى إن لم تنجح كما تتمنى، فستكون أقرب بكثير إلى الفهم مما تريده حقًا من أن تبقى عالقًا في هذا الركود."
نظر نحوها مطولًا، كأن كلماتها اخترقت منطقة كان يتجنب النظر إليها، ثم قال:
"ربما... ربما الخوف من الفشل أسوأ من الفشل نفسه."
ابتسمت قليلاً وقالت:
"بالضبط... الخوف لا يمنحك شيئًا، فقط يسحبك للخلف
تأمل سامر كلماتها بصمت، كأن شيئًا فيها أيقظ صدى قديمًا كان يحاول تجاهله. ثم أخذ نفسًا عميقًا، ونظر نحو ساعة الحائط الصغيرة خلفها، وقال بنبرة منخفضة:
"استراحتي انتهت..."
لم تعلق ليلى مباشرة. فقط نظرت إليه، ثم نهضت من مكانها، وسارت بضع خطوات قبل أن تستدير نحوه وتقول بابتسامة مائلة وغمزة خفيفة:
، تعال إلى منزلي الليلة... نفكر بالأمر سويًا، بهدوء."
لم يكن في نبرتها إغراء صريح، بل دفء لا لبس فيه، وطمأنينة لا يملك سامر سوى أن ينجذب لها. ربما كانت هذه المرة الأولى التي يشعر فيها أن التفكير بالمستقبل لا يعني القفز وحده إلى المجهول.
غادرت ليلى المقهى بهدوء، تاركة خلفها أثرًا من عطرها وكلماتها.
عاد سامر إلى عمله بصمت، كأن شيئًا لم يُقال، لكن حركة يديه في التنظيف والترتيب صارت أبطأ، أكثر تفكّرًا.
ومع حلول الليل، أطفأ الأنوار، أنزل الستائر، وأغلق الباب الحديدي خلفه بإحكام.
وأشعل سيجارته، والليل يلف المدينة بثقل صامت. راح يفكر، يزن بين طرق لم يمشِها بعد، وبين أرض اعتادها جيدًا حتى كادت تبتلعه.
الهاتف يهتز في جيبه.
ليلى.
رد دون أن يتكلم.
"كنت تفكر بتركي وانتظر، صح؟"
قالت ذلك بنبرة خفيفة، لكنها لم تكن تخمّن. كانت تعرف.
ضحك سامر بخفة، نفث دخانًا، ثم قال ممازحًا:
"قدرة ملاحظتك هذه... يمكن أن تكون مزعجة أحيانًا."
ردت بمزاح مشابه:
"تخيّل لو كنتِ مشرفة عليك في العمل، ما كنت لتنجو بيوم."
ابتسم، لأول مرة دون أن يشعر بثقل.
"فقط تعال، أنا أنتظرك."
قالتها بهدوء، لا كطلب، بل كجسر مفتوح.
ثم أغلقت الخط، وتركته مع نفسه... وسيجارته التي أوشكت على الانطفاء.
انطلق نحو شقة ليلى بخطى مترددة.
رن الجرس....
يتبع قسم ثالث غدا بنفس موعد
تعليقات
إرسال تعليق