فصل رابع:مَسافَةُ أَمانٍ

جاء اليوم التالي كأن لا شيء تغيّر، لكنه في الداخل، كان يتحسس حضورًا خفيفًا، كأن شيئًا ما بات مألوفًا أكثر من اللازم.

الساعة تشير إلى ما بعد الظهيرة بقليل، والمكان شبه خالٍ إلا من رجل يقرأ جريدة، وامرأة تنقر على هاتفها دون اهتمام.

دخلت ليلى في نفس الوقت تقريبًا، لا ببطء ولا بعجلة. وقفت أمام الكاشير، تنظر إليه كما لو أن أمس لم يُكمل بعد.

قالت بهدوء:
"قهوة كالعادة، لكن... لا أمانع بعض الرفقة اليوم."

رفع حاجبه قليلًا، كمن يسمع شيئًا غير متوقّع، لكن وجهه لم يتغير كثيرًا.

"رفقة؟"

أومأت برأسها، تبتسم نصف ابتسامة:
"أعني... أنت تصنع قهوة جيدة، وربما تحسن الحديث أيضًا. سأكتشف الآن."

لم يردّ سريعًا. فقط نظر حوله، ثم إلى الساعة، ثم قال بنبرة شبه مازحة:
"لدي عشر دقائق، لو احتملتِ قهوة بسرعة وإجابات أبطأ."

قالت وهي تتجه نحو طاولة قرب الزجاج:
"صفقة منصفة."

ذهب لإعداد القهوة. يداه تعملان كما اعتاد، لكن هناك فرقًا خفيفًا لا يُرى: حركة أقل ميكانيكية، وربما اهتمام أكثر من اللازم بدرجة الحرارة.

حين عاد، وضع الفنجان أمامها، ثم جلس مقابلاً، لكن دون تكلّف، كعامل في استراحة قصيرة.

قال:
"أنتِ زبونة دائمة، لكن لا أظنني أعرف عنك الكثير."

أجابت بهدوء دون أن تلتقي بنظره:
"عادةً، لا يُطلب منا أن نقول شيئًا ونحن ننتظر القهوة."

ابتسم بخفّة وهزّ رأسه:
"صحيح. على أي حال، اسمي سامر."

رفعت عينيها إليه هذه المرة، وكأنها تُعيد النظر فيه، ثم قالت بنبرة أخف تحفظًا:
"ليلى."

سكتا للحظة، ثم قال سامر، محاولة كسر الصمت:
"ماذا تدرسين؟"

رفعت حاجبها قليلاً، كأن السؤال بسيط لكنه يحمل في طياته أكثر من مجرد فضول.

"آداب إنجليزية. القصص، الشعر، تحليل النصوص... أنت؟"

ابتسم وهو ينظر إلى كأنه يجد في نفسه شيء مختلف عن الدور الذي يلعبه هنا:
"في المقابل، أعمل هنا... في المقهى. لكني أقرأ أيضًا كثيرًا، أعتقد أن القراءة هي طريقي للهروب أو ربما فهم ما حولي."

لم ترد، لكن عيناها أضاءتا قليلاً، وبدت كمن تستمتع بالحوار رغم بساطته.

نهض سامر قائلاً:
"يبدو أن استراحتي انتهت. لا أدفع لك للجلوس جانبا."

ضحكت ليلى بنعومة:
"وأنا لا أمانع القهوة، لكن الحديث كان أمتع."

تردد قليلاً ثم قال بحذر:
"لماذا لا نذهب لمكان آخر في وقت ما؟ ليس كموعد، فقط... مكان هادئ؟"

نظرت إليه، وعيناها تبدو وكأنها تحاول فك شفرة ما، ثم ابتسمت:
"ربما... لنرى."

ارتسمت على وجه سامر ابتسامة خفيفة لم تصل إلى عينيه، تنهد بهدوء ثم استدار ليعود إلى عمله، بينما بقيت كلماتها تدور في رأسه.


---

عاد سامر إلى المقهى، حركة يديه تسرّع قليلاً وهو يعيد ترتيب الكؤوس. كانت عيونه تراقب المكان بتركيز أقل من المعتاد.

فجأة، سمِع صوت المدير يدعوه بصوت جاف:
"سامر، أريدك في مكتبي الآن."

توقف للحظة، ثم اتجه نحو المكتب. عند الباب، كان المدير ينتظره، نظرة صلبة لا تحمل مجالاً للحديث المجامل.

قال المدير بحزم:
"سمعت عن اهتمامك بزبائننا. لا تتودد إليهم أكثر من اللازم، هذا ليس من مهامك."

نظر سامر إليه بهدوء، ورد بهدوء غير متوقع:
"وهل هناك قانون جديد يمنع ذلك؟"

تغير تعبير المدير، وأردف بصوت أكثر حزمًا:
"هذا ليس موضوع قوانين، بل موضوع حدود واضحة. أنت موظف، ليس صديقًا أو رفيقًا للزبائن. تجاوز هذه الحدود يعرضك للمساءلة."

تنهد سامر، محاولًا أن يبقى متماسكًا، وقال بهدوء:
"أنا أفهم أن لكل عمل قواعده، لكن هل تظن أن مجرد الحديث الودي هو سبب للمساءلة؟"

ابتسم المدير بسخرية خفية:
"إذا استمر الأمر، قد يكون ذلك سببًا للفصل."

توقف سامر للحظة، نظر إلى المدير بثبات وقال بحزم:
"هل هذا كل شيء؟"

كانت كلماته تعبر عن سيطرة تامة على نفسه رغم الغضب الذي كان يختلج داخله. المدير اكتفى بالنظر إليه ثم أشار له أن يذهب.

خرج سامر من المكتب، لكن هدوءه الظاهري لم يكن إلا قشرة رقيقة. لم يهدأ أو يسترخِ، بل عاد إلى مكان عمله وعقله يشتعل غضبًا.

الأفكار تتزاحم داخله، يفكر في سبب طلب المدير، في قسوته، في كم أن شخصًا كهذا يمضي وقته وهو يغلي من الداخل.

عمل سامر كما اعتاد، لكنه لم يكن كعادته. عقله لم يعد منشغلاً بتحليل زبائن المقهى، ولا بالتفاصيل اليومية الصغيرة.

هذه المرة كان مركزًا على شيء مختلف: على ذلك الغضب المكبوت.

استمر سامر بالعمل في المقهى، لكنه كان في عالم مختلف تمامًا داخل رأسه. صوت المدير لا يزال يتردد، وكلماته تشتعل بداخله كجمرة لا تخبو.

"لماذا يعتقد أنه يملك الحق في التحكم بكل شيء؟ لا أتعامل مع زبائن كهؤلاء كأنهم مجرد أرقام أو مشاكل يجب إزاحتها. هل أصبح القسوة والجمود القانون الجديد في الإدارة؟"

توقف للحظة، أغمض عينيه وتساءل بصوت هادئ لكنه صارم:
"وهل يستحق الأمر كل هذا العناء؟ هل سأكسب شيئًا إذا أصررت على المجادلة؟"

صمت، وسكتت أفكاره الساخنة قليلاً.
"لماذا أنا أصلاً أضيّع وقتي في هذا الصراع؟ ما الذي سأحققه؟"

ثم فجأة، بدت فكرة أخرى تخترق هدوءه الداخلي، فكرة لطالما تجاهلها:
"ولماذا حتى أهتم؟ 

ابتسم بسخرية خفيفة، وعيونه تتأمل لحظة هدوء نادرة وسط عاصفة أفكاره.

تعليقات

  1. 🔸 الفصل القادم يُنشر يوم 19/6/2025 الساعة 17:00 UTC (غرينتش).

    خطوة جديدة صغيرة في الطريق، لكنها تحمل وزنًا مختلفًا
    شكرًا لكل من قرأ، حتى بصمت. 🙏

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة