الفصل الخامس: حين سمح للمشاعر ان تكون
في البداية، ظنَّ أن ما يشعر به سيتلاشى مع الوقت.
وأنّ ما جرى بينه وبين ليلى في ذلك الحديث، لم يكن سوى لحظة ضعف — نزوة عابرة، تحت وطأة ظرفٍ خاص.
لكنه كان مخطئًا.
في اليوم التالي، ثم الذي يليه، لم تتوقّف الفكرة عن التكرار. لم تكن فكرة تمامًا، بل إحساس غامض. لا اسم له، ولا هيئة. لكنه كان حاضرًا، ثقيلًا، مستقرًّا كمن يسكنه عنوة.
كانت ليلى هناك، كما اعتاد أن يراها. مواعيدها المنتظمة، قهوتها المفضّلة، والطريقة التي تلقي بها التحية وكأنها تعرفه منذ زمن.
وفي لحظة ما، بينما كان يضع الفاتورة على طاولتها، قال بصوت خافت، هادئ، خالٍ من الزينة:
"هل تفضلين الأماكن الهادئة؟"
رفعت بصرها إليه، نظرتها مستقرة، بلا انفعال واضح.
أجابته:
"أفضلها على الأماكن المزدحمة."
هزّ رأسه ببطء، كمن توصّل إلى نتيجة.
"ثمة مكان قريب. يمكننا الذهاب إليه بعد انتهاء دوامك، إن لم يكن لديك مانع."
كان كلامه بسيطًا، مباشرًا، لا تلميحات فيه.
كأنّ الأمر لا يتجاوز مقترحًا عابرًا.
لكنّه لم يكن كذلك.
تأملت وجهه لحظةً، ثم قالت:
"لا مانع لديّ. دعني أنهي عملي فقط."
لم يبتسم، ولم يعلّق. اكتفى بإيماءة خفيفة، ثم ابتعد.
أما في داخله، فكان شيء ما يتحرّك. لا بسرعة، بل بهدوءٍ يُخيف.
كأنّ القيد الذي عاش خلفه طويلًا… بدأ يتراخى.
بعد أن انتهى دوامها، لم تقل شيئًا.
نظرت إليه، فاكتفى بأن يرفع حاجبيه إشارةً إلى "هل أنتِ جاهزة؟"
أومأت برأسها دون كلام.
أغلق سامر باب المحل بهدوء، ودسّ المفتاح في جيبه.
كان الليل ساكنًا، والشارع شبه خالٍ، سوى من ضوء خافت ينبعث من عمود إنارة قريب.
كانت ليلى تقف غير بعيد، تنتظره بصبر، وعلى وجهها ابتسامة صغيرة لا يعرف إن كانت مجاملة أم صادقة.
اقترب منها بخطوات هادئة، وقال:
"آسف على التأخير."
هزّت رأسها بخفة، وقالت:
"لا بأس، لم يكن انتظارًا ثقيلاً."
سارا معًا دون استعجال، خطواتهما متقاربة، وإن لم تكن متزامنة تمامًا.
قال بعد لحظة صمت:
"لست متأكدًا من المكان المناسب، لم أخرج كثيرًا مؤخرًا."
قالت دون أن تنظر إليه
لابد انه جيد كفاية
نظر إليها، كأنه يحاول أن يقرأ ما بين الكلمات، لكنه لم يقل شيئًا.
واصلا السير في هدوء، والمدينة من حولهما تنام شيئًا فشيئًا.
سارا معًا في الشارع الذي بدأ يخلو من المارّة، كأن المدينة تسحب أنفاسها الأخيرة قبل نومٍ عميق.
الضوء المنعكس من نوافذ المحال المطفأة، والأرصفة الرطبة من غبار الليل، كان يمنح للمكان هدوءًا يشبه التأمّل أكثر مما يشبه الفراغ.
خطواتهما لا تتعجّل شيئًا، كأن الوقت قد توقّف بين طرفي هذه الليلة.
لا سيارات، لا ضجيج، فقط صوت المدينة وهي تنزلق نحو السكون، وصوت خطواتهما كأنه النَفَس الوحيد المتبقي لهذا الليل الطويل.
قال سامر، وهو يضع يديه في جيبيه:
"أتعرفين؟ كنت أظن أن المشي ليلًا بين الشوارع الفارغة شيءٌ يخصّ العابرين فقط… لكن يبدو أنه قد يكون بداية."
ابتسمت ليلى دون أن تنظر إليه مباشرة، وقالت:
"ربما المدينة تصبح أكثر صدقًا حين تنام."
مرّا بجانب مكتبة مغلقة، انعكست صورتهما على زجاجها المظلم.
نظر إليها في الانعكاس، لم يقل شيئًا، ثم أكمل السير.
قالت بعد لحظة صمت:
"هل كنت تتخيّل هذه الليلة قبل أن تبدأ؟"
فكّر قليلًا، ثم قال:
"كنت أتخيّل احتمالاتها فقط… لكني لم أجرؤ على تخيّل التفاصيل."
صمتت، وكأنها تمنحه مساحةً ليكتشفها بنفسه.
المحال تُغلق أبوابها، وأضواء النوافذ تنسحب إلى الداخل، كأن المدينة تتهيأ لحكاياتٍ لا تُروى إلا في العتمة.
لم يكن بينهما حديث، لكن شيئًا ما كان يُقال، يُفهم، دون أن يُنطق.
نظرة جانبية، بطرف العين، خفيفة كنسمة، وردة ابتسامة لم تُزهر، لكنها كانت هناك.
خطواتهما لم تكن متسارعة، لكنها لم تكن مترددة أيضًا.
كأنهما يعرفان الطريق دون أن يقررا إلى أين يذهبان.
أو كأن المسير ذاته، بكل هدوئه، كان غايتهما الوحيدة.
مرّا بجانب بائع ورد يغلق عربته. لم يلتفتا إليه، لكن عبيرًا خفيفًا تسرّب من زهرة ياسمين، فكسر صمت اللحظة دون أن يُعكّره.
قال، وكأنه يحدث نفسه:
"المدن التي نحبها، نحبها أكثر عندما نتشارك صمتها."
توقّفت قليلًا، ونظرت إليه. لم تبتسم، لم تُعلّق.
لكن تلك النظرة وحدها كانت كافية لتقول:
أنا أفهم.
قال أخيرًا، بصوت يكاد يُسمع:
"هناك مقهى صغير، لا يبعد كثيرًا… لا أعرف إن كان لا يزال مفتوحًا، لكنني أحب هدوءه."
لم تُجب، لكنها أومأت بخفة، كأنها تقول:
أرِني .
ولمّا انعطفا عند الزاوية، بدا المقهى هناك، كأن الضوء انتظر وصولهما.
الواجهة الزجاجية تعكس ضوءًا دافئًا، وأصوات خافتة تتسرّب من الداخل، فيها شيء من الحنين وشيء من الحذر.
دفع الباب بهدوء، ودخلا.
كأن المدينة أغمضت عينيها خلفهما، وتركتهما ليكتشفا… ما بعد البداية.
جلسا إلى طاولة قريبة من النافذة، حيث يمكن للضوء الخافت أن يلامس حواف الوجوه دون أن يفضح ما خلفها. المقهى شبه فارغ، أصوات أكواب، موسيقى خفيفة لا تحدد لها زمنًا، ورائحة قهوة لم تُصبّ بعد.
رفع سامر قائمة الطلبات دون اهتمام حقيقي، ثم قال وهو ينظر إليها مباشرة:
"أنتِ من النوع الذي يقرأ الناس كما يقرأ الصحف... "
أجابت، دون أن تلمس القائمة أمامها:
"وأنت من النوع الذي يختبر نفسه في كل جملة، ليتأكد أنك ما زلت ذكيًا بما يكفي."
ضحك بخفة، ثم قال:
"إذن لن نضيع وقتنا في المجاملات."
"قطعًا لا."
ثم أضافت، بنبرة أشبه بتقرير:
"عيونك تتحرك كثيرًا، لكنها لا تبحث. هذا يعني أنك لا تشك، فقط تحاول جمع بيانات. ملاحظ، لكنك لا تراقب… فرق بسيط، لكنه حاسم."
اندهش قليلًا، لكن أخفى ذلك بابتسامة قصيرة، وقال:
"تحليل جاف لكنه دقيق. هل هذا ما تفعلينه دائمًا؟ تسقطين الأشخاص في جملٍ بلا عاطفة؟"
قالت وهي تسند ذقنها على راحة يدها:
"ليس دائمًا. فقط عندما أريد أن أفهم قبل أن أرتاح."
أخذ نفسًا قصيرًا، ثم قال:
"إذن… هل أرتحتِ الآن؟"
أجابت بعد لحظة تفكير:
"جزئيًا. ما زال لديك ميل للسيطرة على مجريات الحوار، وهذا يمنعني من التنبؤ بنهاياتك."
ضحك، ثم أشار للنادل ليطلب قهوة دون أن يسألها عن رغبتها.
فقالت دون أن تبتسم:
"أنت أيضًا تحاول أن تُظهر اهتمامًا دون أن تطلب إذنًا. تصرفك هذا يمكن تفسيره بطريقتين: إما أنك واثق، أو تخاف من الرفض."
ردّ وهو يحرك الكوب أمامه دون أن يشرب:
"بل أؤمن أن بعض الأشياء تُكتشف بالتجريب، لا بالتفاوض."
سادت لحظة صمت.
ثم قالت فجأة:
"هل كنت الابن الأكبر؟"
رفع حاجبيه، وكأنه تلقى سؤالًا من خارج السياق، ثم أجاب:
"نعم… لماذا؟"
"كل شيء فيك يصرخ بأنك تعوّدت أن تكون مسؤولاً، حتى في الأماكن التي لا تحتاجك مسؤولًا فيها."
ضحك هذه المرة بصدق:
"هذا مخيف، لكن مثير للإعجاب."
نظرت إلى فنجانها الذي وصل للتو، ثم قالت:
"وأنت، هل كنت تراقبني منذ أول لحظة؟"
قال، وهو يضع يده على الطاولة بينهما، دون أن يلمس شيئًا:
"أنا أراقب التفاصيل… ليس الأشخاص. لكنكِ تملكين طاقة ترفض أن تمر بصمت. هذا بحد ذاته يفرض الفضول."
قالت وهي ترتشف أول رشفة:
"الفضول... هو أجمل مدخل وأسوأ ندم."
"وأنتِ… هل تخشين الندم؟"
أجابت بعد تردد لم يستمر إلا ثانية:
"أخشاه فقط إن لم يكن ناتجًا عن اختيار حر."
ابتسم، وقال:
"حينها، نحن نمارس أصدق أنواع الحرية."
في المقهى، بعد أن وصل الحديث إلى نقطة صامتة…
أخذ رشفة صغيرة من قهوته، ثم وضع الكوب ببطء، كأنه يختبر صدى صوته على الطاولة.
قال:
"أحيانًا أفكّر… أن بعض الناس لا يهربون من الآخرين، بل من قدرتهم الخاصة على الملاحظة."
رفعت حاجبها، كمن لا يمنح إعجابًا بسهولة، لكنها لم تقاطع.
تابع، دون أن ينظر إليها:
"كأنك تعرف أنك تلاحظ أكثر مما يجب. ترى التفاصيل التي يُفترض أن تبقى هامشية. وتحاول أن تنسى، لكن الذاكرة لا تتعاون."
قالت، وهي تميل قليلاً للأمام:
"وهل هذه ملاحظة… أم اعتراف؟"
ضحك، ضحكة قصيرة بلا ابتسامة حقيقية، وقال:
"ربما اختبار."
قالت بهدوء وهي تضع ملعقتها جانبًا:
"هل تختبر قدرتي على الردّ؟ أم قدرتي على إخفاء ما لم أقل بعد؟"
نظر إليها لأول مرة منذ بدأ الحديث، نظرته لم تكن حادة، لكنها حاضرة جدًا.
قال:
"أريد أن أعرف إن كنتِ تشبهينني في شيء… إن كنتِ، مثلًا، تعرفين طعم الغربة حتى وأنتِ جالسة بين من يسمّون أنفسهم أهلًا."
لم تبتسم. لم تغيّر ملامحها. فقط قالت:
"ليس الأمر أني غريبة عنهم… بل هم غرباء عنّي ولم ينتبهوا."
صمت، ثم هزّ رأسه ببطء، كأن شيئًا ما استقر في داخله.
قال:
"لا أظن أن الوحدة هي العزلة، بل أن تتكلم بلغة لا تُفهم، حتى وأنت تتحدث بلسانهم."
قالت:
"وأحيانًا، الأسوأ من ذلك، أن تجد من يفهمك… لكنك لا تثق بأنه لن يستخدم الفهم ضدك."
رفع كوبه مجددًا، كأن الحديث صار ثقيلاً بما يكفي ليحتاج لقهوة.
قال:
"هل حدث معك ذلك؟"
نظرت إليه، ببطء، ثم قالت:
"ألا ترى أن هذا سؤال يخفي نية تفكيك أكثر مما يريد إجابة؟"
ابتسم. ابتسم حقًا هذه المرة.
"ربما… لأنني لا أؤمن بالأسئلة البريئة."
قالت:
"ولا أنا
وبعد تلك الابتسامة التي كسرت وتراً مشدودًا بينهما، عاد الحديث إلى هدوئه الأول.
تناولا بقايا المشروب، وتبادلا بضع ملاحظات عن المكان، عن ديكور المقهى، عن الأغنية القديمة التي بدأت تُعزف في الخلفية.
حديث صغير، لكنه لم يكن فارغًا.
حين خرجا، كانت الأرصفة ما تزال ناعسة، كأن الليل لم يُرد أن يغادر بعد.
الهواء صار أبرد قليلًا، فرفع سامر ياقة معطفه وقال:
"دعيني أوصلك، لا يبدو أن ثمة سيارات أجرة في هذا الوقت."
هزّت رأسها بخفة، لا اعتراض، ولا خجل. الطريق إلى بيتها لم يكن بعيدًا، لكنه كان كافيًا ليُمدّد تلك اللحظة.
سارا جنبًا إلى جنب، أكثر قربًا من المرة الأولى، كأن شيئًا ما استقر بينهما بهدوء.
وعند الباب، لم يقف طويلًا، ولم يُطل الحديث.
قال ببساطة: "كنت أفكر… ربما نكرر هذا، لكن بمكان أقل هدوءًا هذه المرة؟"
نظرت إليه، وابتسمت، ليس كجواب، بل كدعوة ليتابع.
أخرج هاتفه، ومدّه نحوها.
"رقمك؟"
كتبت الرقم دون تعليق، وأعادته إليه.
قالت: "لكن في المرة القادمة، أنت من
سيختار المقهى."
ضحك، وقال: "إذاً، عليّ أن أكون حذرًا."
أومأت، ثم فتحت باب المنزل، ودخلت.
وبقي هو لحظة أمام الباب، كأن شيئًا تأخر عن المغادرة.
ثم استدار، ومشى…
وترك خلفه بدايةً لم تُكتب كجملة واضحة، لكنّها كانت واضحة بما يكفي لمن يريد أن يقرأها.
مرحبا بكل من وصلو حتى هذا الفصل أود شكركم على قرائة حتى هنا
ردحذفموعد الفصل القادم سيكون يوم 22/6/2025
على نفس الموعد
🔹 مرحبًا، أود أخذ رأيكم في أمر بسيط يخص الفصل السادس من الرواية.
ردحذفالفصل طويل نسبيًا (5614 كلمة)، وفيه أحداث مهمة وتقدّم واضح.
برأيكم، هل الأفضل:
1. نشره دفعة واحدة؟
2. تقسيمه إلى جزأين؟
3. أو تقسيمه على ثلاثة أجزاء خفيفة؟
📝 حتى تعليق واحد يكفيني لاتخاذ القرار، وشكرًا لأي شخص يرد 🙏