الفصل الأول – "ما يُشبه المدن"
في عالمٍ بدا كأنّه صورة مشوّهة لعالمنا، كُتب على المدن أن تُسمّى متحضّرة. ناطحات سحاب، أضواء، نظم تقنية متقدمة، وشعارات براقة تُغنّى بها نشرة الأخبار كل صباح. لكن الحقيقة؟ تحت هذا الطلاء الفاخر، تنام أرواحٌ جائعة وأفواهٌ صامتة. هناك من يدفن أحلامه في دفاتر الدين، وهناك من يستيقظ بطنين رأسه لا منبّهه، بينما الآخرون يتثاءبون من تخمة لا يدرون كيف يحملونها.
وفي وسط هذه المدن، وُجد “هو”. لا اسم يُتداول له، لم يكن بارزًا في شيء، لا يعرفه الناس بشيء مميز… لكن داخله، كان عالَمٌ آخر. لم تكن عينه تلاحظ فقط، بل تحلّل. لم يكن يسمع، بل يفهم ما وراء الكلمات. وكان يرى أحيانًا ما لا يُرى.
منذ صغره، تعلّم أن المشاعر أحيانًا تؤذي. لم يكن هذا قرارًا واعيًا، بل نتيجة تجربة. حين صرخ، لم يُسمَع. وحين بكى، ضُحك عليه. فتعلّم أن يَفهم بدل أن يشعر، أن يُراقب بدل أن ينفعل. بدأ بتحليل تعابير وجه أمّه، صمت أبيه، كذب أقرانه، وحتى ارتباكه الخاص في المرآة. لم يفعل ذلك بدافع الفضول فقط، بل لحمايةٍ صامتة… كأنّه إن فهم كل شيء قبل أن يحدث، لن يصيبه الألم حين يقع.
ومع الوقت، صار هذا التحليل سلاحه الوحيد في عالمٍ يضرب دون تحذير. لم يعد ينتظر من الحياة أن تكون منصفة، بل صار يخطط كيف ينجو منها بأقل خسائر ممكنة.
كل صباح، يستيقظ دون حب أو كراهية للعمل. الوظيفة لم تكن إلا وسيلة لتجنّب الجوع، لا أكثر. مديره المعتاد يُوبّخه على تأخيرٍ ببضع دقائق، كأنّ خمس دقائق تهدّد انهيار الكون. يرتدي زيه الممل، يقف خلف الكاشير في مطعم ومقهى متوسط الازدحام، يراقب البشر لا كزبائن، بل كألغاز مفتوحة.
لم يكن الزحام مشكلة… المشكلة كانت ما يحمله هؤلاء الزبائن داخلهم. امرأة تربي طفلين وتعمل ليلًا ونهارًا، ورجل يحاول أن يبقى صالحًا لعائلته رغم أنه ينهار من الداخل، وأطفال يظنون أن آباءهم لا يحبونهم، فقط لأنهم لا يستطيعون البقاء في البيت أكثر من ساعة. لم تكن هذه القصص فريدة، بل متكررة… ولكنها تؤلم في كل مرة كأنها تُروى لأول مرة.
كل يوم، كان يعيش نمطًا مكررًا. لا عائلة، لا صديق ينتظره، لا حديث ينتظره أحد. يحصل على راتب ثابت، ينفق القليل، ويترك الباقي بلا خطة. لم يكن بائسًا، لكنه لم يكن حيًّا تمامًا أيضًا. لكنّه، وسط هذا الركام، لم يكن منسجمًا مع ما حوله. لم يكن متمردًا، ولا موافقًا، فقط… خارجًا عن الموجة، كمن يُبحر بلا مجداف، لكنه يرفض أن يغرق.
كانت داخله طاقة صامتة. لا يعرف منبعها، ولا مخرجها. يرى الناس يتجادلون، يتصالحون، يُحبّون، يكرهون… وهو يراقب، فقط. كأنه لم يُصنع ليعيش في هذا الزمن، أو ربما صُنع ليراه من بعيد.
أحيانًا، يشعر أن جسده يتحرّك آليًا. يستيقظ، يرتدي ملابسه، يتحدث بعبارات مكررة للعملاء، ويبتسم ابتسامة مدفوعة الثمن. لكن داخله؟ تجري حوارات لا يسمعها أحد. أسئلة لا تنتهي، شكوك حول كل شيء، إحساس مُنهك بأن كل شيء في هذا العالم تم ترتيبه ليمنع الإنسان من أن يكون نفسه.
لم يعرف إن كان ما فعله حماية… أم استسلامًا. لكنه أصبح طريقه الوحيد للتعامل مع العالم.
وحتى حين كانت تحضر. فتاة تأتي كل خميس تقريبًا، تجلس في الزاوية نفسها، تطلب قهوتها المفضلة، ثم تنغمس في كتابٍ أو شاشة حاسوبها. لم تكن الأجمل، ولا الأكثر لفتًا للأنظار… لكنها كانت مختلفة. ليس بالشكل، بل بالطريقة. كانت تتصرف كأنها تنتمي لمكان آخر، تتأمل بصمت، لا تُحادث أحدًا، لكنها تبتسم أحيانًا لنفسها كأنها تتذكر شيئًا مضحكًا من الداخل.
لم تكن محورًا لاهتمامه، بل حالة مثل باقي الحالات التي اعتاد مراقبتها. لكنه لاحظ أن تحليلها… لم يكن سهلاً. كان يظن في كل مرة أنه فهمها، ثم تفعل شيئًا يُربكه. يومًا بدت غاضبة دون سبب، ويومًا آخر ابتسمت بعد مكالمة قصيرة، ثم غابت أسبوعين فعرف أنها كانت تمر بامتحانات، وحين عادت بدت وكأنها حملت العالم على كتفيها، لكنه لم يعرف السبب.
هي لم تكن مشكلة، لكنها لم تكن سهلة الحل أيضًا. وربما لهذا، بدأت تكرارها الأسبوعي يُبقي زاوية من عقله مشغولة بها. لا رغبة، ولا توق. مجرد اهتمام خالص… بنمط لم يُفكّك بعد.
ورغم ذلك، لم يكن ميّتًا تمامًا. كان هناك شيءٌ ما صغير… كجمرة تحت رماد، لا يرى نورها أحد، لكنه يشعر بها أحيانًا إذا جلس وحده طويلًا. شيء يقول له أن هناك معنى ما، مخفي، بعيد، لكن موجود
هل هذا أمل حقًا؟ أم مجرد غريزة بشرية تحثنا على الاستمرار؟ هل هو موجود بالفعل، أم أنه يرغب يوجوده؟
ولأجل هذا الشعور فقط… كان يستمر.
تعليقات
إرسال تعليق