الفصل سادس قسم 1: تفاصيل لاترى
المقهى كان يعج بصوت آلات القهوة وأحاديث الزبائن المعتادة، وسامر يقف خلف العداد، يجهز قهوته اليومية بعناية متمرسة.
بينما كان سامر يسكب القهوة في الفنجان، دخلت ليلى بخطى هادئة نحو طاولتها المعتادة في الزاوية، مع ابتسامة خفيفة تُخبر عن حضورها الذي صار جزءًا من المكان.
سامر، وهو يحمل فنجان القهوة، يتقدم نحوها:
"قهوة اليوم، ."
ليلى، ترفع رأسها نحو سامر، وتبتسم بابتسامة دافئة:
"تعرف كيف تجعل يومي يبدأ بشكل أفضل."
جلست ليلى، وبدأت تغمض عينيها للحظة، تستنشق رائحة القهوة الطازجة.
ليلى، بنبرة خافتة، وكأنها تهمس بسر:
"كيف الأمور مع المدير؟"
وقف سامر مستندًا برفق على الطاولة المقابلة، يراقبها بعينين هادئتين لكن حادتين.
سامر، بابتسامة رقيقة واثقة:
"لا تقلقي بشأنه."
كان صوته يعبّر عن الثقة التي اكتسبها، وعن تحكمه في الموقف، دون أن ينفذ له مكان في أفكاره.
ليلى، تنظر إليه بعمق، وتبتسم بحذر:
"أعرف أنك تتحكم في كل شيء، لكنني أحيانًا أتمنى لو كنت أستطيع فعل ذلك مثلك."
سامر، وهو يضحك بخفة، يلتقط فنجان القهوة:
"ربما، لكنك تراقبين وتلاحظين أفضل مني... أعتقد أن هذا يجعلنا فريقًا جيدًا."
تبادلا نظرات طويلة، حاملة في طياتها أكثر من كلمات. كان هناك شيء في التفاهم والهدوء، في تلك اللحظة
بعد ساعات من الانشغال المستمر، سامر في المقهى يعمل بتركيز، وليلى غارقة في دراستها، كلٌ منهم في عالمه الخاص. مع حلول استراحة قصيرة، قرر سامر أن يكسر رتابة العمل.
حمل كوبين من القهوة متجهاً نحو طاولة ليلى، وترك أحدهما أمامها بهدوء.
ابتسم وقال:
"ظننت أنك قد تحتاجين إلى استراحة."
رفعت ليلى عينيها ببطء، أخذت رشفة من القهوة، ولم تقل شيئاً.
جلس سامر بجانبها، وأخرج علبة سجائره من جيبه. نظر إليها للحظة، ثم قال بنبرة هادئة:
"آمل ألا تكوني من كارهات المدخنين."
تنهدت ليلى ببرود، ثم قالت:
"لا أحب التدخين، لكنه ليس سببًا لأن أهرب من الناس الذين يدخنون."
أشعل سامر سيجارته، واستنشق بعمق، قبل أن يضيف بهدوء:
"التدخين بالنسبة لي، ليس فقط عادة... هو لحظة هدوء وسط كل الضجيج."
ثم أدار الحديث بسلاسة، محاولة الاقتراب أكثر:
"وماذا تدرسين الان هل هناك مشروع أو امتحان يشغلك هذه الأيام؟"
ابتسمت ليلى قليلاً، ونظرت إلى أوراقها:
"نعم، أعمل على مشروع بحث عن الرمزية في الشعر المعاصر. لازم أنهيه قبل نهاية الشهر."
راقب سامر تعبير وجهها، وشعر أن هذه التفاصيل تفتح له نافذة جديدة لفهمها. لحظة الصدق في عينيها جعلته يرى تعبًا لم يظهر خلال الحديث العابر أو حتى الجلسات السابقة.
قال بنبرة ناعمة:
"نهاية شهر؟ يعني نهاية هذا الأسبوع؟"
هزّت رأسها بخفة، ترفع عينيها عن شاشة الحاسوب للحظة:
"أجل... أحاول إنهاء مشروع تحليل نصوص أدبية معاصرة. أريده أن يكون مميزًا، ليس فقط جيدًا."
أومأ بتفهّم، ثم مال قليلًا إلى الخلف وأخذ نفسًا هادئًا من سيجارته:
"طموح جميل، وأيضًا ضغط لا بأس به."
أجابت بابتسامة فيها شيء من الإرهاق:
"تمامًا... أحيانًا أشعر أني أريد فقط أن أنام ليومين وأستيقظ لأجد كل شيء جاهز."
ضحك بخفة، ثم قال وهو ينظر إلى فنجانه:
"قرأت بعض الشعر المعاصر خلال الفترة الماضية، ليس للدراسة بل بدافع الفضول فقط... إن احتجتِ مراجعة أو رأي، أعتقد بإمكاني أن أكون مفيدًا."
رفعت حاجبها بدهشة خفيفة، ثم قالت بابتسامة ممتنة:
"حقًا؟ لا أمانع... في الواقع، سيكون من المفيد سماع رأي مختلف. أحيانًا أضيع داخل رأسي."
ليجيب بنبرة دافئه جميل سنغلق بعد بضع ساعات ثم يمكننا دراسة
بعد الإغلاق
عند انتهاء نوبة العمل، أطفأ سامر أضواء المقهى الأخيرة، وتأكد من ترتيب الطاولات كما اعتاد. ليلى انتظرته عند المدخل، حقيبتها على كتفها ونظرة التعب في عينيها تمتزج بإصرار غير معلن.
"جاهزة؟" سألها بهدوء، فردت بابتسامة قصيرة وهزت رأسها إيجابًا.
الطريق إلى شقتها لم يكن طويلاً، لكن الصمت بينهما لم يكن ثقيلاً، بل أقرب إلى راحة مكتسبة.
لحظة الدخول
حين فتحت باب شقتها، شعر سامر بثقل لحظة دخوله. لم تكن مجرد زيارة، بل كأنه يدخل مساحة خاصة تحتفي بنسختها من العالم.
كانت الغرفة بسيطة لكن مرتبة. رفوف مليئة بالكتب بعضها مفتوح، أوراق مبعثرة بانضباط غير واضح على الطاولة، كنبة بلون رمادي باهت، ونبتة خضراء تقف بثقة بجوار النافذة.
لم يقل شيئًا. عيناه مسحت المكان كما لو أنه يحاول قراءة نص جديد.
الستارة المفتوحة نصفها تعني شيئًا، الترتيب الجزئي للأشياء يوحي بكثرة الاستخدام، وكأن عقلها لا يهدأ كثيرًا.
بدء الدراسة
جلست على الأرض قرب الطاولة المنخفضة، وأخرجت ملفاتها وأوراقها.
"هذا المشروع... عليّ أن أكتب قراءة تحليلية لقصيدة لشاعرة معاصرة، أحتاج لشيء متماسك وعميق."
نظرت له وكأنها تختبر قدرته، أو ربما تنتظر تفسيره للعالم من خلال كلماتها.
جلس مقابلاً لها، وأخذ منها الورقة. قرأ الصياغة الأولى بهدوء.
"من هذه الشاعرة؟" سأل.
"سيلفيا بلاث."
ابتسم بخفة، وكأن الاسم أيقظ شيئًا مألوفًا.
"تعقيدها لا يكمن في ما تكتب... بل فيما تحاول ألا تكتبه."
ثم أضاف وهو يعيد الورقة:
"هل يمكنني أن أرى المسودة؟ أظن أن هناك فكرة خفية في نهاية المقطع الأول."
تبادلوا الأوراق والكلمات، ومع مرور الوقت، لم تعد المسافة بينهما سوى مجرد مساحة مشتركة للفهم، والبحث، وربما لشيء لم يُسمَّ بعد.
بعد مرور أكثر من ساعة على الدراسة
كانت الأوراق منتشرة أمامهما، خطوط قلمها ممزوجة بتعليقاته، وهو يوضح بعض المقاطع بينما تحاول التركيز وسط تعبها.
ثم، دون أن تنظر إليه، قالت وهي تنهض بتثاقل:
"سأحضر شيئًا نشربه... دماغي بدأ يرفض الكلمات."
اتجهت إلى المطبخ الصغير المتصل بالغرفة، وصوت خطواتها على البلاط اختلط بخرير ماءٍ يُسكب، وكأن كل شيء في المكان صار أهدأ.
في تلك اللحظة، بقي سامر وحده مع صمته.
نظر إلى الأوراق، ثم إلى الغرفة، ثم إليها... كانت تقف وهي تسكب الماء في إبريق، شعرها متدلٍ على كتفها، ترفعه أحيانًا بإهمال لتربطه، ثم تتركه، كما لو أنها غير مهتمة بما يراه أو لا يراه.
هناك شيء في تلك البساطة يربكه.
ما الذي أفعله هنا؟
هل تجاوزت حدودي حين عرضت مساعدتي؟ أم أنني فقط أردت أن أراها تفكر بصوت مسموع؟
تأمل انعكاس الضوء على شعرها الأسود، على حركة يديها وهي تبحث عن أكواب، على الطريقة التي تهمهم بها لنفسها بينما تقرأ ملصق الشاي أو السكر.
لم تكن لحظة رومانسية، بل لحظة تهديد. تهديد لتوازنه.
هي ليست ذلك الجمال، بل ذكية، ولديها وعي لذاتها يجعل حضورها مستفزًا لنظامي الداخلي.
أنا معتاد على الفهم، على تفكيك الشخصيات من بعيد... لكن معها، الأمور لا تقبل التفكيك بسهولة.
العرض بالمساعدة لم يكن مجرد مساعدة، بل كان خطأً محسوبًا. خطأ لأنه كشف شيئًا أضعف مما يجب.
عاد بنظره إلى الأوراق أمامه، محاولًا أن يستعيد دور المرشد أو المتحكم، لكن كل شيء فيها — من طريقتها في الإمساك بالكوب إلى لحظة سهوها البسيطة — جعله يشعر أن اللعبة لم تعد بيده تمامًا.
ثم عادت، تحمل كوبين. وضعت أحدهما أمامه دون أن تنظر له طويلاً.
"شاي بالنعناع... أسهل شيء."
ابتسم، وقال بنبرة تحمل امتنانًا أكثر مما قصد:
"مثالي."
لكنه كان يعلم — في مكان ما داخله — أن ما يحدث بينهما ليس بسيطًا، وليس مثاليًا، وإنما... حقيقي جدًا. وربما خطير.
رُحت الكلمات تتلاشى شيئًا فشيئًا من بين دفاترهم، وتحوّل التركيز من المفاهيم إلى تثاؤب خافت هنا وهناك. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة فجراً، وصمت المدينة يلفّ الشقة كما يلفّهم التعب.
قالت بنبرة مجهدة وهي تتصفح آخر ورقة أمامها:
"أشعر أن عيني ستُغلق دون إذن مني."
ابتسم سامر، وأعاد ترتيب الأوراق القريبة منه، ثم تمطى وهو يرد:
"دعينا نأخذ دقيقتين راحة... فقط دقيقتين."
لم ينتبها كيف انزلقت رؤوسهم ببطء إلى الخلف، ولا متى صار دفترها مطويًا عند صدره. غفت وهي متكئة على كتفه، بينما ذراعه امتدت لتغطي كتفها بحركة لا واعية، كما لو ك
انت محاولة غريزية لاحتوائها وسط ذلك الصمت.
ظل المكان ساكنًا، لا صوت سوى تنفسين هادئين يذوبان في بعضهما، وشمس الصيف البطيئة تتسلل من خلف الستائر المغلقة
قمت بتقسيم فصل لأنه طويل وسأنشر غدا فصل ثاني
شاركني افكارك و ارائك عن رواية حتى الان
تعليقات
إرسال تعليق